تلك تساؤلاتكم المشروعة وهذه إجاباتنــا ج5 : في المهجـر والداخل والقيادة وأشياء أخرى...

اللقاء الإصلاحي الديمقراطي (5) تلك تساؤلاتكم المشروعة وهذه إجاباتنا(5)...

الجــــزء الخامس : في المهجر والداخل والقيادة وأشياء أخرى...


الكلمة فعل والفعل أمانة
"إن الكلمة لمن روح القدس، إنها تسهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد، إذ تدخل إلى سويداء قلبه فتستقر معانيها فيه لتحوله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة" هذه هي الكلمة عند مالك بن نبي [[1]] وهي الكلمة الصادقة ودورها الحضاري التي يحملها الخطاب السليم والخطاب الشفاف والخطاب الواحد وغير الازدواجي، والتي تستطيع أن تبني مشروعا وعقلية وثقافة وسلوكا.
لن يعيش خطاب "اللقاء" السراديب والكهوف، لن يكون قمريا خافتا يهاب الرأي الآخر ويفضل المشي حذو الحائط مسكنة أو تهربا، سوف يكون الرباط الذي يجمعه مع الشعب حريريا ناصعا واضحا شفافا..، لن نغلق الأبواب، ولن نغمس الرؤوس في الرمال، ولكنه عهد علينا أن نكون واضحين، حتى لا نبني على مناورة ولا نبني على القيل والقال ولا نبني في الضباب ولا نبني في الدهاليز.. وسوف تبقى الكلمة أمانة نحملها في جعابنا، ونرددها في مجالسنا وتطبع مشروعنا وذواتنا حتى نلقى الله عليها.

في البداية كان "اللقاء" وكان التأسيس...
كما ذكرنا في البيان التأسيسي ونعيده تذكيرا وتأكيدا، أن فكرة "اللقــاء" انطلقت منذ سنة 2003 بين مجموعة من وطنيي المهجر الذين عايشوا تجربة النضال والتنظم، وحملوا همّ الأوطان، ودفعوا غاليا التمسك بتلابيب الحرية، من منافي وعزلة وفرقة الأمهات والآباء والعشيرة..، كانت الانطلاقة تفكيرا في انحباس القلم الفكري الإسلامي التونسي وتواضع انتاجه أو عدمه، ومحاولة تجاوزه عبر تأسيس منتدى سياسي ومنبر فكري، لكن الحوارات أبرزت تشكل رأيين مثّل أحدهما التركيز على أولوية مركز البحث ومدى أهميته في البناء النظري، وارتأت مجموعة أخرى المضي في بناء وعاء سياسي للفكرة.
بقيت الفكرة منحصرة في هذه المجموعة ولم تطأ برأسها خارجا أبدا إلى أواخر سنة 2004، حيث ارتأى بعضنا أن يحدث بها بعض الناس التي تربطهم بهم علاقة فكرية أو أسرية وذلك إخلاصا منا حتى لا يصدمون حين الإعلان عن هذا الوليد ولا يظنون بنا الظنون، فكان الحديث إعلاما بالمشروع الذي مر على مخاضه أكثر من سنة.
حملت هذه المجموعة الفكرة بنسب متفاوتة، وعند القرار بالخروج إلى العلن وطرح البيان التأسيسي، خيّر بعضهم البقاء خارج الإطار، وعدم الظهور الآني تحت الأضواء الكاشفة، لأسباب عدة في انتظار جلاء بعض العراقيل...
والوضوح والصدق اللذان يلزماني أمام الله وأمام الشعب يجعلاني أتحدث عن بقاء اضطراري نفسي، وموضوعي في بعض الأحيان، ولكل تبريراته التي أتفهمها في البقاء الآني وراء الستار، ولست متعجلا في خروجهم إلى الساحة إن واصلوا المشوار !
إن قبضة التحزب كبيرة وشديدة ولا شك، وهي قبضة يجب تفهمها والحلم بصاحبها، فليس سهلا أن يغادر أناس موقعا أو بيتا حمل تاريخهم وتواجدهم، حمل حلوهم ومرهم، حمل علاقات فردية وأسرية، تولد عنها رباط نفسي عميق قارب محطات الإيمان، ليس بالسهل تفكيكه أو حتى تخفيفه، لذلك فإني أقبل هذا الترقب وأتفهمه، على أمل أن يقع تجاوز هذا الحاجز النفسي في القريب.
إن مشروع "اللقــاء" يبقى فكرة جماعية تداول على نضجها وصياغتها ديمقراطيا وبنسب مختلفة ثلة من أبناء هذا الوطن من منافيهم ومهاجرهم، ووصلوا في نهاية تشاورهم إلى طرح تصور بديل لحياة أفضل لهذا الشعب الأبي، عمادها رفاهة الروح والجسد للفرد والمجموعة.

حول الداخل والمهجر
لم يكن المهجر اختيارا في حياتنا، غادر أغلبنا الأوطان اضطرارا، واستقر اضطرارا، وعاش حياة المنافي والمهاجر اضطرارا، ولم يخرج مشروع "اللقــاء" عن هذه الحالة الخاصة، كان المهجر موطن من لا موطن له، وكانت هذه البلاد الطيبة إطارا لاستنشاق نسائم الحرية، على نسبيتها، وبُني المشروع في غير أهله وعلى أرض غير أرضه، ولكنه في إطار حر ومن قبل أحرار، فكان المهجر تعويضا للمفقود وأملا في المنشود، وستبقى هذه البلاد ملاذا للفكرة وأصحابها حتى يعود الإطار الداخلي سليما معافى يقبل التعدد ولا يناوئ غيره، سوف يبقى المهجر استثناء حتى تشرق شمس الحرية من جديد على الوطن الحبيب.
لا نخفيكم أن مجال الحركة وجماهيرها كان في البداية منحصرا في الإطار المهجري "الكهولي" من أصحاب المنافي، ممن يعلونا شرف التوجه إليهم خاصة، فهؤلاء الأفاضل يمثلون حالة خاصة وفريدة ومتنوعة، منهم من استوطن الديار وكثرت عياله ومشاغله وحبذ الانسحاب بصمت، ومنهم من حمل هما وانتماء ولا يسعى إلى البحث عن المزيد، فالتاريخ والأسرة والعادة حسموا الموقف وزيادة، ومنهم من يحمل رجاء مدفونا وأملا خائبا، يرمق السماء والأرض وينتظر الساعي كل يوم وليلة، ومنهم من يحمل ترددا واضحا في كل حياته الخاصة والعامة، فلا هو هنا ولا هو هناك، ولا هو معك ولا هو ضدك، خدمه الضباب حينا ولعله يخدمه في ما بقى !
هؤلاء جميعا نحيّ فيهم منفاهم وصبرهم ومصابرتهم، ولن ينساهم تاريخ البلاد ولن ينساهم "اللقاء" في مشواره الطويل فهم عماد من أعمدته. وجمهور "اللقــاء" أوسع وأشمل... فاللقــاء فكرة ومشروع، اللقاء يريد البناء مع أهل البناء وهم كثير !
في مرحلة التأسيس جاءتنا بعض المطالب للانتماء وقد رددنا عليها ونعيدها اليوم طالبين من الإخوة والأخوات ترقب إنشاء الموقع على الشبكة وتجلي بعض الثنايا حتى تطرح شروط الانتماء بكل وضوح وشفافية.
جمهور "اللقـــاء" مهجري وداخلي، ونحن نعتقد أن الانترنت وعالم المعلومة المشاهدة يحمل دورا كبيرا ومؤثرا ومتعاظما في الأشهر والسنوات القادمة، وأن تقارب الأسواق والبلدان والمجموعات سوف يزداد ولا يقل.
إن عهد الانفراد في الظلمة ومن وراء الأسترة الحديدية قد ولى وانتهى، وأن غلق منافذ الأرض لن يحول دون فتح منافذ السماء، ومهما أتقن الجور وسائل التعتيم والتهميش والتعسف فإن رياح التغيير لن تغير اتجاهها ولا وجهتها وأن عالم الانترنت يمكن أن يمثل نافذة عميقة لللإتصال رغم محدوديتها في البداية على أن تتوسع لاحقا.
ورغم أن الإصلاح والتغيير مسار وعملية تستوجب الملامسة العينية ومعايشة الواقع عن قرب، فإن للضرورات أحكامها، وعندما تنغلق الأبواب وتنسدّ الآفاق فإنك أمام خيارين لا ثالث لهما، إما العمل بما لديك من أدوات ووسائل وإطار ومحيط، وإما الانسحاب والانتظار والتواكل والمراهنة؟..
ولقد خيّرنا في "اللقــاء" الحراك على السكون، والمواجهة على الموادعة، والبناء على الهدم، حتى من وراء الحدود وعلى أرض غير أرضنا وسماء غير سمائنا... صلتنا الوحيدة اليوم بالداخل هي الانترنت والمجلات الورقية والالكترونية والفضائيات، و"اللقاء" مشروع وطني يحمل محطات ومراحل، انطلقت من المهجر لتحط رحالها في الداخل بإذن الله، وبين هذا وذاك سعة من البناء والتأسيس والعمل. إن بناء الفكرة وإعادة تشكيل العقلية السياسية للمواطن التونسي، والحصول على ثقته واطمئنانه إلى مصداقيتنا وشرعيتنا وجديتنا، هو التحدي الكبير الذي نحمله في يومنا وليلنا ويقض مضاجعنا ويحمّلنا مسؤولية عظيمة أمام الله وأمام هذا الشعب العزيز.
إن ما يخفف علينا ضخامة التحدي وكثرة المضيقات، هو اعتقادنا بأن العمل السوي والبناء السليم لا يمكن أن يؤتي أكله كاملا مستساغا في إطار من الاستبداد والإقصاء، ويبقى العمل داخله استثناء حتى يحدث التغيير، فالحرية هي المجال الصحيح والأسلم للإبداع. من هذه الزاوية يمكن أن يشكّل المهجر هذه النافذة الحرة نسبيا، لمساندة الإصلاح والتغيير الداخلي، والمساهمة مدنيا في تطوير العقول والتوجهات، وسوف نبقى رابضين على هذه النافذة حتى ينفتح الباب، ونحن نظن أن الانتظار لن يطول.
والتجربة الحقوقية رائدة ومعبرة في هذا المجال، حيث التصق الفعل الخارجي بالفعل الداخلي ليساهم في رج الواقع الحقوقي التونسي ولو ببطء، مما جعل المشهد الداخلي يعيش بين الحين والآخر ومضات مشرقة، جاءت نتيجة تلازم هذين المحورين وتواجدهما. فلولا الخارج ما تقدم الداخل، ولولا الداخل لما وجد الخارج مجالا للتحرك. فانسداد محور لا يعني موت المشهد، ولكن تواصلا بآليات جديدة ورجال آخرين وإطار ومواقع مختلفة.
إن "اللقاء"، يبقى مشروعا وطنيا يسعى جاهدا إلى بلورة رؤية إصلاحية وبرنامج للتغيير المدني داخل البلاد، وهو يعلم أن الوجود السليم والأنجع يكون داخل الوطن، لكن الظروف المحيطة التي تعكس حالة الانفراد والإقصاء تضعه يعيش حالة الاستثناء في بناء مشروعه، وهو عازم على عدم ترك أي طريق أو فرصة سلمية وسليمة لارتباطه المباشر مع الداخل، وملامسة أهله من أبناء الوطن ومعايشة يومهم وليلهم، وإن كان يعيش همومهم وأحلامهم ويحمل آمالهم وهو من وراء الحدود.

د. خـــالد الطراولي عن حركة اللقــاء في 21 جوان 2007

[1] مالك بن نبي "شروط النهضة" دار الفكر سورية، الطبعة الرابعة 1987، ص:24.